لِقاءُ الحُلْمِ

 
 
 
 

مُهِمَّتي اليَوْمَ لَيْسَتْ مُهِمَّةً اعْتياديَّة، وَكُلُّ ما فيها خارِجٌ عَنِ المَأْلوف. فَالمَطارُ لَيْسَ كَباقي المَطارات، إِذْ لَنْ أَرْكَبَ طائِرَةَ رُكّابٍ عاديَّة، وَلَنْ أَحْتاجَ إِلى خَتْمِ جَوازِ سَفَري أَوِ التَّعْريفِ بِهويَّتي الشَّخْصيَّة، بَلْ كُلُّ ما يَلْزَمُني هوَ الوُصولُ إِلى نُقْطَةِ الدُّخولِ في بَوّابَةِ الزَّمَنِ حَيْثُ يَتِمُّ التَّعرُّفُ إِلى هويَّتي عَبْرَ ماسِحٍ ضَوْئيّ، وَتَحْديدُ أَيِّ زَمَنٍ أَرْغَبُ في الذَّهابِ إِلَيْه، سَواءٌ أَكانَ في الماضي أَمْ في المُسْتَقْبَل.

وَها أَنا الآنَ أَمامَ مَرْكَبتي، أُقَلِّبُ في شاشَتِها المُثَبَّتَةِ أَمامي لأَخْتارَ المَكانَ وَالزَّمان. وَطَبْعًا لَمْ أَتَرَدَّدْ كَثيرًا، فَقَدْ كانَتْ نَفْسي تَوّاقَةً لِزيارَةِ مَدينَةِ البَصْرَةِ جَنوبِ العِراقِ لأَلْتَقيَ بِمَلِكِ النَّحْو، حامي اللُّغَةِ العَرَبيَّةِ وَحارِسِها "أَبو الأَسْوَدِ الدّؤَلي".

وَما هيَ إِلّا لَحَظاتٌ حَتّى ظَهَرَ أَمامي جَدْوَلُ الرِّحْلَةِ الَّتي لَنْ تَسْتَغْرِقَ وَقْتًا طَويلًا، فَقَدْ كُنّا نَقْطَعُ الزَّمَنَ بِسُرْعَةِ الضَّوْء. وَعُثوري عَلى غايَتي لَمْ يَكُنْ صَعْبًا، فَهوَ مَفْخَرَةٌ مِنْ مَفاخِرِ الفَصاحَةِ العَرَبيَّةِ وَبَلاغَتِها. وَلِأَتَمَكَّنَ مِنْ مُقابَلَتِه، ما كانَ عَلَيَّ إِلّا أَنْ أَطْلُبَ إِلى الحاجِبِ رؤْيَتَه، وَهَكَذا حَصَلَ فَباشَرْتُ بِحَديثي مَعَه:

ـ "مَرْحَبًا، أَنا "عمر بن محمّد" صَحَفيٌّ مَوْهوبٌ مِنَ القَرْنِ الواحِدِ وَالعِشْرين، جِئْتُكَ مِنْ بِلادٍ بَعيدَةٍ لأَرْبُطَ الماضي العَريقَ بِالحاضِرِ الجَميل. فَهَلّا تُعَرِّفُنا بِنَفْسِكَ أَوَّلًا؟"

ـ "أَنا "ظالِم بِنْ عَمْرو الدّؤَلي الكناني"، وُلِدْتُ قَبْلَ الهِجْرَةِ في الحِجازِ جَنوبي مَكَّةَ المُكَرَّمَة، ثُمَّ انْتَقَلْتُ إِلى البَصْرَةِ وَسَكَنْتُ فيها، إِلى أَنْ وافَتْني المَنيَّةُ فيها سَنَةَ تِسْعَةٍ وَسِتّينَ هِجْريًّا."

ـ "ما السِّرُّ الكامِنُ وَراءَ تَسْميَتِكَ بِـ"أَبي الأَسْوَد"؟ أَلَدَيْكَ وَلَدٌ اسْمُهُ "أَسْوَدُ" أَمْ كُنْتَ ذا بَشَرَةٍ سَوْداءَ مَثَلًا؟"

ـ "لا يا بُنَيّ، لَمْ يَكُنْ لَدَيَّ سِوى وَلَدَيْنِ "عَطاء" وَ"حَرْب"، وَبَشَرَتي لا تَزالُ عَلى حالِها، لَكِنَّ اسْمي "ظالِم" كانَ يَتَنافى مَعَ مَكانَتي كَقاضٍ يَتَّصِفُ بِالعَدْل، فَاتَّخَذْتُها كُنْيَةً لي."

ـ "كَيْفَ تَعَلَّمْتَ العَرَبيَّةَ وَأَتْقَنْتَها لِدَرَجَةِ أَنْ تَضَعَ لَها أُسُسًا وَقَواعِد؟"

ـ "العَرَبيَّةُ لُغَتُنا، وَكُنّا نَتَكَلَّمُها عَلى سَجيَّتِنا في أَحاديثِنا وَأَشْعارِنا، كَما كُنّا نَجْتَمِعُ في أَسْواقِنا لِنُفْضيَ إِلى بَعْضِنا بِأَحْسَنِ ما لَدَيْنا مِنْ كَلِماتٍ وَعِباراتٍ مُخْتارَة، ليُدْخِلَها السّامِعونَ إِلى كَلامِهِمْ وَيُهْمِلوا سِواها."

ـ "ما هوَ عِلْمُ النَّحْو؟ وَلِماذا لُقِّبْتَ بِمَلِكِه؟"

ـ "النَّحْوُ عِلْمٌ يَضْبُطُ حالَةَ أَواخِرِ الكَلِماتِ لِنُدْرِكَ نَوْعَها وَعَلاقَتَها بِما قَبْلَها، فَنَفْهَمُ الكَلامَ فَهْمًا صَحيحًا. وَلِأَنَّني وَضَعْتُ الخُطوطَ العَريضَةَ لَه ـ مِثْلَ بابِ الفاعِلِ وَالمَفْعولِ بِهِ وَالمُضافِ وَحُروفِ النَّصْبِ وَالجَرِّ وَالرَّفْعِ وَغَيْرِها، بِهَدَفِ ضَبْطِ اللِّسان، وَصيانَتِهِ مِنَ اللَّحْنِ وَالخَطَأ، وَتَجَنُّبِ إِفْسادِ اللُّغاتِ الأَعْجَميَّةِ لُغَتَنا العَرَبيَّة ـ لُقِّبْتُ بِمَلِكِ النَّحْو."

ـ "أَهُناكَ سَبَبٌ لِهَذِهِ التَّسْميَة؟"

ـ "نَعَم، لَقَدِ اسْتَوْحَيْتُها مِنْ كَلامِ "الإمامِ علي" عِنْدَما عَرَضْتُ عَلَيْهِ ما صَنَعْت، إِذْ قالَ لي آنَذاك: "ما أَحْسَنَ هَذا النَّحْوَ الَّذي نَحَوْتَه!"، فَاسْتَحْبَبْتُ القَوْلَ وَسَمَّيْتُهُ عِلْمَ النَّحْو."

ـ "وَهَلْ وَضْعُ أُسُسِ النَّحْوِ العَرَبيِّ هوَ إِنْجازُكَ الوَحيد؟"

ـ "طَبْعًا لا، فَقَدْ قُمْتُ بِوَضْعِ التَّشْكيلِ أَيْضًا. فَالنُّقْطَةُ فَوْقَ الحَرْفِ دَلالَةٌ عَلى الفَتْحَة، وَتَحْتَهُ دَلالَةٌ عَلى الكَسْرَة، أَمّا الضَّمَّةُ فَلَها مَكانٌ عَلى يَسارِ الحَرْف، كَما تَرَكْتُ الحَرْفَ السّاكِنَ مِنْ دونِ نِقاط، وَلي ديوانُ شِعْرٍ في المَدْحِ وَالحِكْمَةِ وَالخُلُقِ القَويم."

ـ "أَخْبِرْني ما واجِبي اليَوْمَ تِجاهَ لُغَتي العَظيمَةِ بِرَأْيِك؟"

ـ "لُغَتُكَ يا بُنيَّ هيَ هويَّتُكَ وَانْتِماؤُكَ وَمُسْتَقْبَلُكَ وَحَياتُك. فَنَحْنُ خَيْرُ الأُمَم، وَاللُّغَةُ العَرَبيَّةُ خَيْرُ اللُّغات، فَهيَ لُغَةُ المُسْتَقْبَلِ الَّتي لَنْ تَموت. لِذا جَميلٌ أَنْ تَتَعَلَّمَ لُغاتٍ أُخْرى لِتَفْتَحَ نَوافِذَ العِلْمِ وَالمَعْرِفَة، لَكِنْ لا تَنْسَ أَنَّكَ لَنْ تَحْلُمَ إِلّا بِلُغَتِكَ الأُمِّ وَلَنْ تُبْدِعَ إِلّا فيها."

شُكْرًا لَكَ "أَبو الأَسْوَدِ الدّؤَلي" عَلى هَذِهِ المَعْلوماتِ القَيِّمَة، فَقَدْ أَغْنَيْتَنا فِعْلًا وَنَتَمَنّى أَنْ نَلْتَقيَ مُجَدَّدًا لِنَتَطَرَّقَ إِلى مَواضيعَ أُخْرى أَوْسَعَ وَأَكْثَرَ شُمولًا مِنْ مَوْضوعِ اليَوْم.

هذا النّصّ من تأليف التّلميذ "عمر محمّد" بإشراف المعلّمة "رائدة محمّد" في الصّفّ الثّامن أساسيّ من مدرسة "الظّفرة الخاصّة - العين" خلال مشاركته في مسابقة التّعبير الكتابيّ على منصّة "كم كلمة" في العام الدّراسيّ 2021-2022.

Previous
Previous

لِقاءٌ مَعَ مُبْدِعَة

Next
Next

مُقابَلَةٌ مَعَ "عُمَر فاروق"